لا تزال المنطقة تنتظر ولادة معادلات ترسم صورتها النهائية بعد سلسلة تطورات كبرى أخذت الحسابات نحو منطق مغاير، لذلك الذي كان مرسوماً ويبدو أنّ هذا المشهد الكبير المنتظر صارت ملامحه أوضح في هذه المرحلة. فالمشكلة التي بدأت من تصعيد في مياه الخليج كادت تودي الى حرب بين واشنطن وطهران تشعل المنطقة برمّتها كما كان ظاهراً أصبحت اليوم واحدة من الفرضيات «البعيدة»، بعد ان ثبت انّ الطرفين غير مستعدّين لشنّ حرب بهذا الحجم قادرة على تغيير معالم الخليج والعبث بمعادلات ثُبتت استراتيجيًا لعقود وكرّست تمركز دول كبرى هناك أبرزها الولايات المتحدة الأميركية ومعها حلفاؤها ما تكفل بنفي هكذا احتمال.. وكلما اقترب ترامب من استحقاقه الرئاسي صار التصعيد أو المجازفة بأجندة لم تكن موضوعة على جدول أعمال الرئيس الأميركي المقبل لإصلاح اقتصادي بنى مجمل سياساته الدولية على أساسها «أبعد»..
هكذا توجه الأميركيون نحو إيران برسائل إيجابية. وهكذا توجّه الفرنسيون نحو إيران بوساطة لحلّ الملف العالق «نووياً» وصار الحديث حول لقاء بين ترامب والرئيس الإيراني حسن روحاني منطقاً «مقبولاً» وغير مستبعد بالمرحلة المقبلة بعد ان كان شبه مستحيل.
حرب أخرى بالوكالة بين الطرفين كان يعوّل عليها وقد أتت فرصتها المفتوحة في الايام الماضية لتشعل فتيل حرب تأخذ نحو تغيير ممكن بين المحاور. وهو التصعيد الحاصل بين حزب الله و»إسرائيل». الامر الذي لم يحصل والذي أخذ شكله المحدود و»المدروس» بالكامل. وكلّ هذا يعني انّ الخضوع للأمر الواقع الآيل لحفظ التوازنات بالمنطقة والعودة اليها والتخلي عن التصعيد في الوقت الحالي هو المطلوب.
لحظة التوازنات وعودتها تفرض معادلة جديدة تُدخل أطرافاً كلاعبين أساسيين فيها، ومصر أبرز من يطفو على سطح هذه المعادلة من البوابة العريضة لتكون الركن الأساسي في صناعة التسويات وصمام الأمان المقبول من أغلب الأطراف الإقليمية خصوصاً العربية والخليجية منها، تحديداً السعودية وحلفاءها وسورية ولبنان بطبيعة بكل اصطفافاته السياسية وتعقيداته بطبيعة الحال. فقد حافظت مصر على دورها «المعتدل» بالسنوات الماضية المنحاز لمبدأ اساسي وهو مكافحة الإرهاب دونما الدخول بمطامع «تغييرية» لأنظمة او الدخول بدوامة قتال عبثي على غرار ذلك الذي لا يزال مستمراً في اليمن. والمقصود هنا مرحلة ما بعد سقوط نظام الرئيس الراحل محمد مرسي الذي كان له موقف حاد حيال إسقاط النظام السوري. وهنا تصبح القيادة المصرية برئاسة عبد الفتاح السيسي الأكثر حظاً للعب دور محوري بهذا الحجم عربياً في المرحلة المقبلة. وهي مرحلة تأسيسية لولادة شكل التسويات الجديدة والتي تحتاج وقتاً ودقة وقراءة للتوازنات وركائزها.
بهذا السياق تشهد الساحة السياسية اللبنانية حركة «مصرية» دبلوماسية مكثفة امتدت لتترجم اهتماماً مباشراً بما جرى على الحدود الجنوبية بين «إسرائيل» وحزب الله عبر اتصالات مكثفة اجرتها القاهرة بقيادة وزير خارجيتها سامح شكري مع طرفي النزاع لتهدئة الأوضاع وضبط النفس والحدود الجنوبية في لبنان. وقد اعلنت الخارجية المصرية بشكل صريح عن التزامها بمتابعة الوضع بالاسابيع المقبلة تحسباً لأي تطور واضعة مجمل الاطراف عند مسؤولياتها ليأتي بعدها زيارة محورية لرئيس حزب لبناني اساسي ومن موقع مغاير وهو رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط ووفد رفيع من الكتلة النيابية التي يقودها نجله تيمور جنبلاط وشخصيات من قيادة حزبه لتعيد رسم توازنات محلية هذه المرة وترسل اشارات حول «الدور» و»الموقع» وبأي حال من الأحوال لا يمكن حصر دور النائب السابق وليد جنبلاط باللعبة المحلية. وهو الذي كان له موقف اساسي حيال إسقاط الرئيس السوري بشار الاسد مع مروحة علاقات إقليمية ودولية واسعة عملت من اجل هذا، لكن هذا الموقع ورغم المتغيرات المحلية التي لم تأت لصالحه يبدو انه لا يزال محفوظاً ومؤخراً كان دعم السفارة الأميركية الواضح له اثر أحداث «قبر شمون» الأخيرة مؤشراً ملموساً.
زيارة جنبلاط لرئيس دولة إقليمية بحجم الدور الذي تلعبه مصر والذي من المتوقع أن تتصدّره والحفاوة المصرية التي رافقت الزيارة واهتمام الرئيس السيسي بطرح المواضيع الأكثر حساسية اقليمياً مع جنبلاط كالقضية الفلسطينية وصفقة القرن والملف السوري يؤكد محورية الدور الذي يحافظ عليه جنبلاط إقليمياً ولو ان مسألة إسقاط الأسد جاءت مغايرة لطموحاته وارتفاع نجم خصومه السياسيين من حزب الله وحلفائه محلياً الا انها لم تلغِ «مركزيته» على الساحة اللبنانية لدى الدول الكبرى. وبين رسالة واشنطن والدعم المصري لجنبلاط يصبح الحديث عن اعتباره جزءاً اساسياً من التوازنات الجديدة اقليمياً أمراً محسوماً.
وبالعودة للدور المصري المحوري في لبنان تشير مصادر «البناء» الى ان رئيس مجلس النواب نبيه بري مدعو لزيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ومعروف أن موقع «بري» الوسطي محلياً يجعل منه صمام أمان أي مبادرة مصرية في البلاد.
وبين هذا وذاك السؤال الاساسي الذي يحضر هنا بعد سنوات خلت لمرحلة نفوذ واسعة للمملكة العربية السعودية وتدخلات واضحة في سورية ولبنان يضاف إليها نفوذ إيراني كبير اليوم ممثلاً بحلفاء طهران، يصبح السؤال حول اعتبار مصر وسيطاً او بديلاً عربياً مقبولاً لدى جميع اللبنانيين لا يشكل استفزازاً لاي من الاطراف تمهيدا للتسويات الاخيرة هو الأقوى. فمرحلة كهذه تحتاج لدور مقبول من دولة عربية قادرة على التقدم نحو طرح استحقاقات تقترب نحو المنطقة ابتداء من صفقة القرن وإنهاء القتال في الشمال السوري والاقتراب نحو التسويات وهي مساعٍ قد يطول حصادها، لكنه بدون شك تكريس وتعبيد طريق لدور مصري مركزي مع كل استبعاد للتصعيد بالمنطقة.